فصل: تفسير الآية رقم (187):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (187):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.
التفسير:
نجد عند المفسرين أقوالا كثيرة في هذه الآية، وفى نسخها بآية ونسخها لآية، وغير ذلك من الوجوه التي لم نرض عنها، وقد أدلينا بما أرانا اللّه فيها، واللّه هو الموفق والمعين.
الرفث: ضرب من اللهو والعبث، والمراد به هنا مخالطة النساء والخلوة بهن. ولما كان الصوم في صميمه حرمانا من شهوات النفس ولذاذاتها، وانقطاعا بها عن كل ما من شأنه أن يشبع هوى النفس ويرخى لها الزمام فيما تحب- لما كان هذا هو شأن الصوم، فقد أحس المسلمون عند ما فرض عليهم الصوم وبدؤا يؤدون هذه الفريضة، أن اتصالهم بنسائهم، وإطلاق أنفسهم على طبيعتها معهنّ، هو مما يجرح صيامهم، ويلقى ظلالا من العبث على هذا، الجدّ الجادّ الذي هم فيه، الأمر الذي لا يتفق أوله مع آخره، ولا يلتقى فيه ليله مع نهاره.. وقد امتدّ هذا الشعور إلى الطعام والشراب كذلك، فتحرّج كثير منهم أن يستبيح لنفسه الطعام والشراب على امتداد الليل كله، وإنما الذي له هو أن يفطر فيما بين المغرب والعشاء، ثم يمسك بعد ذلك حتى مغرب اليوم التالي، بل إن كثيرا منهم كان لا يفطر، اليومين، والثلاثة، بل يواصل الصوم.
وعلى هذا فإن الموقف لم يكن واضحا أول عهد المسلمين بالصوم، بين الإنسان ونفسه، أو بين عزيمته وواقع أمره، ومعطيات تجربته، وخاصة فيما يتصل بالاتصال بالمرأة، إذ كيف يكون اتصال ولا يكون شيء من المداعبة والملاعبة؟ وكيف يكون فيها الجدّ وهى الغريزة الحيوانية التي لم يستطع الإنسان أن يستعلى عليها من غرائز الحيوان الكامن فيه؟ فإذا غلب الإنسان على أمره في هذا الموقف ووقع منه ما لابد أن يقع من عبث في سكرة من سكرات نفسه، عاد فانتزعها من هذا الذي هي فيه من عبث، وحاول أن يردّها إلى الجدّ، وهذا في الواقع خيانة للنفس، وسلب لحق من حقوقها الطبيعية، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة في قول الحق جلّ وعلا: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ} ولهذا جاء قول اللّه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} حاسما لهذا الموقف، رافعا عن الصائمين الحرج، فيما يقع بينهم وبين نسائهم من رفث.
وانظر في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} وفى قوله بعد ذلك: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} تجد كيف ألقى سبحانه وتعالى على هذا الرفث ستارا جميلا رفيقا، يستر به ما يكون بين الزوجين في حال اتصالهما، فلا يطلع أحد على ما يكون بينهما، {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ} أي ستر لكم كما يستر الثوب لابسه، {وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} تسترون ما يكون منهن من رفث! وفى قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} بيان لتلك الحال التي كان يعانيها الصائمون من صراع بين الطبيعة النفسية الغالبة، وبين السموّ الروحي، الذي يريد أن يبلغه الصائمون بصيامهم، وأن يتجنّبوا الرفث الذي يقع بين الزوجين.
وفى قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ} إظهار لرحمة اللّه بهم وفضله عليهم: إذ عاد عليهم برحمته، حين أطلق نفوسهم من هذا الحرج الذي كانوا يعيشون معه، في همّ وقلق.
وفى قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إشارة إلى إباحة اتصال الصائمين بنسائهم على الوجه الذي يكون بينهم في غير أيام الصوم.
وإنك لتجد في قوله سبحانه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} ما يشير إلى إيذان بصورة جديدة للصوم، على غير الوجه الذي كان قائما عليه.
وفى قوله تعالى: {بَاشِرُوهُنَّ} معنى غير الذي يعطيه ارفثوا معهن إذ المباشرة هي الاتصال المطلق الذي تحدد صفته حسب تصرف الإنسان، وحسب الحال الذي يكون عليه، وليس كذلك الرفث الذي يحمل معه عند المباشرة شيئا من اللهو والعبث.. فالأمر بالمباشرة إذ يعنى رفع الحرج، يعنى مع ذلك أن يلتزم الإنسان القصد والاعتدال، وأن يتألف هذا الحيوان الذي يكمن فيه، وأن يذكر في تلك الحال أنه إنسان! وأما قوله سبحانه: {وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فيشير إلى ما ينبغى أن يكون مقصدا في المباشرة بين الرجل والمرأة وهو طلب الولد، والأخذ بالأسباب المفضية إلى ما قدر اللّه للزوجين من ذرية.. فليست المباشرة.
قضاء الشهوة وإشباع الغريزة، وإنما هي مطلب كريم، ورسالة سامية، ينظر إليها الإنسان من خلال المشاركة في عمران الحياة، ونماء الإنسان وحمل المسئولية في تقديم الإنسان الصالح في بناء المجتمع! وهذا ما؟؟؟
للمباشرة معنى يرتفع بها عن الرفث الحيواني، والعبث الماجن.
وأما قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} صيانة لتلك الفترة التي نوى فيها المسلم الاعتكاف في بيت من بيوت؟؟؟
والانقطاع للعبادة الخالصة للّه، من أن يدخل عليها شيء من لهو النفس؟؟؟
يذهب بثمرة هذه الرياضة، التي أخذ الإنسان بها نفسه لفترة محدودة الزمن، فهى أشبه بيوم من أيام الصوم- فرضا أو تطوعا- لا يحلّ؟؟؟
فيه أن يتحلل من صومه. فللعبادات حرمتها. فإذا أوجب الإنسان على؟؟؟
شيئا منها، وجب أن يؤديه على الوجه الأكمل له، وإلا أثم من حيث؟؟؟
الأجر والمثوبة.
وفى قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها} تحذير من اختر الحدود التي أقامها اللّه سبحانه وتعالى لحرماته، وجعلها حمى لتلك الحرما؟؟؟
والهاء في قوله {فَلا تَقْرَبُوها} ضمير يرجع إلى تلك الحدود، بمعنى أن؟؟؟
الإنسان الإلمام بالحدود المطيفة بالحرمات، أو يدنو منها، مخافة أن تزلّ؟؟؟
فيقع فيما حرم اللّه، وفى الحديث: «من حام حول الحمى يوشك يواقعه»!.
هذا وحدود اللّه قد تضرب على أشياء فرض تحريمها، أو تقام على أمور أباحها وأجاز الأخذ بها.
وسبحان من أحكم آياته، وتفرد بكلماته، فجاء بها معجزة قاهرة، تعنو لجلالها وجوه العالمين، وتخرس لبيانها ألسنة المخلوقين! ففى الحدود التي تحتوى في داخلها المحرمات كما في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} جاء النهى هكذا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها} أي بالتزام الوقوف خارج تلك الدائرة، حيث أن ماوراءها من مقابل هذا المنهىّ عنه هو المطلق المباح، والاقتراب من تلك الدائرة اقتراب من خطر! وفى الحدود التي تضمّ المباحات، حيث يكون الناس معها في داخل الدائرة، يجيء النهى هكذا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها} أي ألزموا هذه الدائرة ولا تخرجوا عنها إلى ما يقابل هذه المباحات، مما هو خارج تلك الحدود! فإن الخروج عن تلك الدائرة وقوع في محظور! استمع إلى قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: (229: البقرة)!.
فالآية هنا تشريع لإباحة الطلاق، ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها، بل هي داخل حدود مرسومة، فمن تجاوز هذه الحدود، وخرج عنها فهو معتد ظالم!.
وانظر قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) تجد أنها على سمت الآية السابقة.. إنها تقيم حدود اللّه على أمر مباح، ولكنه قائم على وصف خاص داخل هذه الحدود، فمن تجاوز به هذا الحد، وخرج به عن تلك الصفة فقد ظلم نفسه!.

.تفسير الآية رقم (188):

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.
التفسير:
فى الآية السابقة على تلك الآية أقام اللّه سبحانه وتعالى حدّا على حرمة من حرماته، وهى مباشرة المعتكف في المسجد زوجه مدة اعتكافه، ونهى سبحانه عن الاقتراب من هذا الحدّ.
وفى هذه الآية أدخل في تلك الحدود حرمة أخرى، هي حرمة المال، ونهى عن العدوان على هذه الحرمة.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} وهذه صورة من صور العدوان على المال، بما يجرى بين الناس من تسلط، أو نهب، أو سرقة، أو غش، أو احتيال، إلى غير ذلك مما لابد للحاكم فيه.
وهناك صورة أخرى للعدوان، وهى أن يستعان بالحاكم على هذا العدوان بأن يستمال إلى أحد الخصمين بالرشوة، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} أي تلقوا بها إلى الحكام {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والحكام هنا هم من يكون إليهم أمر الفصل فيما يقع بين الناس من خصومات، وبيدهم ردّ المظالم، ودفع العدوان.

.تفسير الآية رقم (189):

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}.
التفسير:
الذين لا يأخذون الأمور مأخذ الجدّ، يصرفون أكثر جهدهم في اللغو، ويقطعون أكثر حياتهم في المماحكة والجدل والعبث.
والمنافقون هم دائما أبدا على تلك الصفة.. ينظرون إلى الأمور نظرة لاهية، ليقعوا منها على وجه من وجوه الخداع، يلبسونه في تلك الحال، ثم يلقونه ليلبسوا غيره في حالة أخرى.. وهكذا وفى موكب الدعوة الإسلامية كان المنافقون يعترضون سير هذا الموكب، ويقطعون عليه الطريق بتلك الأسئلة التي لا يراد بها كسب معرفة، ولا تعرف على حق، وإنما يقصد بها أولا وآخرا، التشويش على الدعوة، وشغلها بالجدل، والالتحام معها في معركة من اللغو، الذي لا محصّل له إلا صداع وضلال.
وقد حمى اللّه الدعوة الإسلامية من أن تنزلق إلى هذا المنزلق، فكانت إجابة القرآن الكريم على تلك التساؤلات الخبيثة والمماراة المضللة- كانت إجابة مفحمة مفحمة رادعة فاضحة.
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} ما بالها تظهر ثم تختفى؟ وما شأنها تتجدد كل عدد معلوم من الأيام؟ ثم لم تلبس كل يوم صورة جديدة؟ وتولد كل يوم ميلادا جديدا؟.
ولو شاء القرآن أن يجيب على تلك الأسئلة الجواب المناسب لها، لأعطى الكلمة الحاسمة الفاصلة، ولكن هذا يفتح المجال للمناظرة والأخذ والرد، والقبول والرفض.. ثم أنّى للعقول- في كل عصر وفى كل مجتمع- أن تستوعب الحقيقة العلمية، وتقنع بها؟ إن غير هذا أولى بالقرآن، وأنفع للناس في مجال دعوته إلى الحق والخير!.
{قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ذلك هو الجواب الذي كان ينبغى أن يكون سؤال السائلين متجها إليه، باحثا عنه..: {هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فهذا هو بعض معطيات الأهلة للناس، يضبط بها رءوس الشهور، ويوقف منها على أشهر الحج التي يقول اللّه عنها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ}.
وفى قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها} تعقيب يستخلص الحكمة والعبرة من ثنايا الحدث والواقعة، وذلك من تمام الهدى الذي جاء القرآن الكريم به، وقامت الرسالة الإسلامية عليه.
فليس من التزكية للنفس، والهداية للعقل، والاطمئنان للقلب، أن يلقى الإنسان الأمور من ظهورها، وأن ينظر إليها من ورائها، فذلك لا يطلعه منها إلا على ظلال وأشباح، أما إذا أراد أن يتعرف إليها، ويعرف وجه الحق منها، فليلقها مواجهة، ولينظر إليها نظرا قاصدا، فذلك هو الذي يدنيه من الحق، إن كان طالبا له، عن نية خالصة وقلب سليم.. وليس كذلك شأن المنافقين الذين لا يأتون الأمور إلا مواربة، ولا ينظرون إليها إلا بأبصار زائغة منحرفة!

.تفسير الآيات (190- 193):

{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.
التفسير:
نحن على رأينا من أنه ليس في القرآن نسخ، وأن كتاب اللّه الذي في أيدينا لا نسخ فيه، وأن آياته كلها عاملة أبد الدّهر.
وآيات القتال من الآيات التي أكثر المفسرون من القول بتوارد النسخ عليها! وهذا رأى- كما قلنا- لا نأخذ به ولا نقيم نظرنا عليه! فقوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} ليس بالمنسوخ بالآية التي بعدها، كما يقول المفسّرون، ولا وجه لنسخه.. فالأمر بالقتال في سبيل اللّه قائم ما قامت الحياة. وإذا كان القتال يقوم بين الناس في وجوه كثيرة في سبل غير سبيل اللّه، فالقتال في سبيل اللّه أوجب القتال وأبرّه، وأعدله، وأكرمه، إذ كان ولا غاية له إلا الانتصار للحق، والتمكين له.. ثم إذا كان هذا القتال لم يكن مبادأة ولا هجوما، بل كان دفاعا وقصاصا، فهو القتال الذي لابد منه، ولا بديل له، إن لم يطلبه الدين طلبته الدنيا.. ثم أيضا، إذا كان هذا القتال- مع مشروعيته دنيا وديانة، ومع حجزه عن المبادأة بالعدوان- غير متلبس بمجاوزة الحدّ في القصاص، فهو القتال الذي لا يحسم الشر غيره، ولا يقيم الأمن والسلام سواه.
{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
فهذه ثلاث دعائم من العدل، يقوم عليها هذا القتال: قتال في سبيل اللّه، بين الإيمان والشرك، ودفع لعدوان المشركين على المؤمنين، ووقوف بالقتال عن مجاوزة إلى اعتداء المؤمنين على المشركين! تلك هي الدعائم التي يقوم عليها قتال المسلمين أبدا مع مقاتليهم على أية ملة، وفى أي زمان ومكان.. فماذا ينسخ من تلك الدعائم، وما داعية نسخها؟ لا نجد جوابا مقنعا.
وقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ}.
هو من تمام البيان لهذه القضية، قضية القتال بين المسلمين ومشركى قريش، فحين يلتقى بهم المسلمون في ميدان القتال، فلا يتحرج المسلمون من قتلهم حيث التقوا بهم، من غير أن تعطفهم عليهم عاطفة قرابة أو نسب، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم، فلقد بدءوا هم المسلمين بالعدوان، وأخرجوهم من ديارهم، وفتنوا بعضهم عن دينهم، ولا يزالون يفتنون من قدروا عليه منهم، بما يسلطون عليه من عذاب ونكال {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} إذ المفتتن في دينه قد أصيب بما هو أشد وأنكى من القتل، قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين!.
فإذا كان القتال في المسجد الحرام، أي في البلد الحرام مكة، فلا يبدؤهم المسلمون بقتال فيه حتى يكون المشركون هم الذين بدءوه، وعندئذ تحل حرمة الحرم، اقتصاصا ممن أحلوا حرمته: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ}.
وقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حسم لما بين هؤلاء المشركين وبين المسلمين من خلاف، وتصفية للشر الذي وقع بينهم، وذلك إذا انتهى هؤلاء المشركون عن شركهم، وأسلموا وجوههم للّه.
عندئذ تنقطع أسباب القتال، وتزول آثاره، فلا ثارات، ولا ديات، ولا عداوة، بل يصبح الجميع إخوة، تجمعهم كلمة الإسلام، وتظللهم راية الإسلام!.
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تطيب لخاطر الفريقين جميعا، فليغفر بعضهم لبعض، وليرحم بعضهم بعضا من حمل البغضة والعداوة، ولهم عند اللّه المغفرة الواسعة والرحمة الشاملة، فإن اللّه غفور رحيم.
هذا وقد نظرنا في تفسير قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} وحملناه على الانتهاء مما كانوا عليه من شرك- نظرنا في هذا إلى قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [275: البقرة].
وهذا المعنى هو الذي يلتقى مع قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث يغتسل المشركون الذين دخلوا في الإسلام من أدران شركهم بما يفضل اللّه عليهم به من مغفرته ورحمته.
وقوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أمر بمقاتلة من بقي على شركه من مشركى مكة الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات، لأنه ما دام المشركون قائمين فالفتنة قائمة، والفتنة هي قتل للمسلمين، وعلى هذا فلا مهادنة مع المشركين {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي فإن انتهوا عماهم فيه من شرك ودخلوا في دين اللّه، فقد دخلوا في السلم، لا ينالهم أحد بسوء إلّا من نكص على عقبه أو دخل الإسلام ليكيد له ولأهله.